الصفحة الرئيسية
>
شجرة التصنيفات
كتاب: الجامع لأحكام القرآن والمبين لما تضمنه من السنة وآي الفرقان المشهور بـ «تفسير القرطبي»
.تفسير الآية رقم (4): {إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)}قال قتادة: حفظة يحفظون عليك رزقك وعملك وأجلك. وعنه أيضا قال: قرينه يحفظ عليه عمله: من خير أو شر. وهذا هو جواب القسم.وقيل: الجواب إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ في قول الترمذي: محمد بن علي. و{إن}: مخففة من الثقيلة، و{ما}: مؤكدة، أي إن كل نفس لعليها حافظ.وقيل: المعنى إن كل نفس إلا عليها حافظ: يحفظها من الآفات، حتى يسلمها إلى القدر. قال الفراء: الحافظ من الله، يحفظها حتى يسلمها إلى المقادير، وقاله الكلبي.وقال أبو أمامة: قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «وكل بالمؤمن مائة وستون ملكا يذبون عنه ما لم يقدر عليه. من ذلك البصر، سبعة أملاك يذبون عنه، كما يذب عن قصعة العسل الذباب. ولو وكل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين». وقراءة ابن عامر وعاصم وحمزة {لما} بتشديد الميم، أي ما كل نفس إلا عليها حافظ، وهي لغة هذيل: يقول قائلهم: نشدتك لما قمت. الباقون بالتخفيف، على أنها زائدة مؤكدة، كما ذكرنا. ونظير هذه الآية قوله تعالى: {لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ} [الرعد: 11]، على ما تقدم.وقيل: الحافظ هو الله سبحانه، فلولا حفظه لها لم تبق.وقيل: الحافظ عليه عقله يرشده إلى مصالحه، ويكفه عن مضاره. قلت: العقل وغيره وسائط، والحافظ في الحقيقة هو الله عز وجل، قال الله عز وجل: {فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً} [يوسف: 64]، وقال: {قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَالنَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ} [الأنبياء: 42]. وما كان مثله..تفسير الآيات (5- 8): {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8)}قوله تعالى: {فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ} أي ابن أدم مِمَّ خُلِقَ وجه الاتصال بما قبله توصية الإنسان بالنظر في أول أمره وسنته الأولى، حتى يعلم أن من أنشأه قادر على إعادته وجزائه، فيعمل ليوم الإعادة والجزاء، ولا يملي على حافظه إلا ما يسره في عاقبة أمره. ومِمَّ خُلِقَ؟ استفهام، أي من أي شيء خلق؟ ثم قال: {خُلِقَ} وهو جواب الاستفهام مِنْ ماءٍ دافِقٍ أي من المني. والدفق: صب الماء، دفقت الماء أدفقه دفقا: صببته، فهو ماء دافق، أي مدفوق، كما قالوا: سر كاتم: أي مكتوم، لأنه من قولك: دفق الماء، على ما لم يسم فاعله. ولا يقال: دفق الماء. ويقال: دفق الله روحه: إذا دعي عليه بالموت. قال الفراء والأخفش: مِنْ ماءٍ دافِقٍ أي مصبوب في الرحم، الزجاج: من ماء ذي اندفاق. يقال: دارع وفارس ونابل، أي ذو فرس، ودرع، ونبل. وهذا مذهب سيبويه. فالدافق هو المندفق بشدة قوته. وأراد ماءين: ماء الرجل وماء المرأة، لان الإنسان مخلوق منهما، لكن جعلهما ماء واحدا لامتزاجهما. وعن عكرمة عن ابن عباس: دافِقٍ لزج. {يَخْرُجُ} أي هذا الماء {مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ} أي الظهر. وفية لغات أربع:صلب، وصلب- وقرئ بهما- وصلب بفتح اللام، وصالب: على وزن قالب، ومنه قول العباس:{وَالتَّرائِبِ}: أي الصدر، الواحدة: تريبة، وهي موضع القلادة من الصدر. قال: والصلب من الرجل، والترائب من المرأة. قال ابن عباس: الترائب: موضع القلادة. وعنه: ما بين ثدييها، وقال عكرمة. وروي عنه: يعني ترائب المرأة: اليدين والرجلين والعينين، وبه قال الضحاك.وقال سعيد بن جبير: هو الجيد. مجاهد: هو ما بين المنكبين والصدر وعنه: الصدر. وعنه: التراقي. وعن ابن جبير عن ابن عباس: الترائب: أربع أضلاع من هذا الجانب.وحكى الزجاج: أن الترائب أربع أضلاع من يمنة الصدر، وأربع أضلاع من يسرة الصدر.وقال معمر بن أبي حبيبة المدني: الترائب عصارة القلب، ومنها يكون الولد. والمشهور من كلام العرب: أنها عظام الصدر والنحر.وقال دريد بن الصمة: وقال آخر: وقال آخر: وعن عكرمة: الترائب: الصدر، ثم أنشد: وقال ذو الرمة: أي شققن. ويروي: ضرحن بالحاء، أي ألقين.وفي الصحاح: والتربية: واحدة الترائب، وهي عظام الصدر، ما بين الترقوة والثندوة. قال الشاعر: وقال المثقب العبدي: عن غير الجوهري: الثندوة للرجل: بمنزلة الثدي للمرأة.وقال الأصمعي: مغرز الثدي.وقال ابن السكيت: هي اللحم الذي حول الثدي، إذا ضممت أولها همزت، وإذا فتحت لم تهمز.وفي التفسير: يخلق من ماء الرجل الذي يخرج من صلبه العظم والعصب. ومن ماء المرأة الذي يخرج من ترائبها اللحم والدم، وقاله الأعمش. وقد تقدم مرفوعا في أول سورة آل عمران. والحمد لله- وفي الحجرات: {إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثى} [الحجرات: 13] وقد تقدم.وقيل: إن ماء الرجل ينزل من الدماغ، ثم يجتمع في الأنثيين. وهذا لا يعارض قوله: مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ، لأنه إن نزل من الدماغ، فإنما يمر بين الصلب والترائب.وقال قتادة: المعنى ويخرج من صلب الرجل وترائب المرأة.وحكى الفراء أن مثل هذا يأتي عن العرب، وعليه فيكون معنى من بين الصلب: من الصلب.وقال الحسن: المعنى: يخرج من صلب الرجل وترائب الرجل، ومن صلب المرأة وترائب المرأة. ثم إنا نعلم أن النطفة من جميع أجزاء البدن، ولذلك يشبه الرجل والديه كثيرا. وهذه الحكمة في غسل جميع الجسد من خروج المني. وأيضا المكثر من الجماع يجد وجعا في ظهره وصلبه، وليس ذلك إلا لخلو صلبه عما كان محتبسا من الماء.وروى إسماعيل عن أهل مكة يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ بضم اللام. ورويت عن عيسى الثقفي. حكاه المهدوي وقال: من جعل المني يخرج من بين صلب الرجل وترائبه، فالضمير في يَخْرُجُ للماء. ومن جعله من بين صلب الرجل وترائب المرأة، فالضمير للإنسان. وقرئ: {الصلب}، بفتح الصاد واللام. وفية أربع لغات: صلب وصلب وصلب وصالب. قال العجاج: وفي مدح النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: الأبيات مشهورة معروفة. إِنَّهُ أي إن الله جل ثناؤه عَلى رَجْعِهِ أي على رد الماء في الإحليل، لَقادِرٌ كذا قال مجاهد والضحاك. وعنهما أيضا أن المعنى: إنه على رد الماء في الصلب، وقال عكرمة. وعن الضحاك أيضا أن المعنى: إنه على رد الإنسان ماء كما كان لقادر. وعنه أيضا أن المعنى: إنه على رد الإنسان من الكبر إلى الشباب، ومن الشباب إلى الكبر، لقادر. وكذا في المهدوي.وفي الماوردي والثعلبي: إلى الصبا، ومن الصبا إلى النطفة.وقال ابن زيد: إنه على حبس ذلك الماء حتى لا يخرج، لقادر.وقال ابن عباس وقتادة والحسن وعكرمة أيضا: إنه على رد الإنسان بعد الموت لقادر. وهو اختيار الطبري. الثعلبي: وهو الأقوى، لقوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ} [الطارق: 9] قال الماوردي: ويحتمل أنه على أن يعيده إلى الدنيا بعد بعثه في الآخرة، لان الكفار يسألون الله تعالى فيها الرجعة. .تفسير الآية رقم (9): {يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)}فيه مسألتان: الأولى: العامل في يَوْمَ- في قول من جعل المعنى إنه على بعث الإنسان- قوله لَقادِرٌ، ولا يعمل فيه رَجْعِهِ لما فيه من التفرقة بين الصلة والموصول بخبر {إن}. وعلى الأقوال الأخر التي في إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ، يكون العامل في يَوْمَ فعل مضمر، ولا يعمل فيه لَقادِرٌ، لان المراد في الدنيا. وتُبْلَى أي تمتحن وتختبر، وقال أبو الغول الطهوي:ويروى: تبلى بسالتهم. فمن رواه تُبْلَى- بضم التاء- جعله من الاختبار، وتكون البسالة على هذه الرواية الكراهة، كأنه قال: لا يعرف لهم فيها كراهة. وتُبْلَى تعرف. قال الراجز: أي أعرفك وتعرفني. ومن رواه {تبلى}- بفتح التاء- فالمعنى: أنهم لا يضعفون عن الحرب وإن تكررت عليهم زمانا بعد زمان. وذلك أن الأمور الشداد إذا تكررت على الإنسان هدته وأضعفته.وقيل: تُبْلَى السَّرائِرُ: أي تخرج مخبآتها وتظهر، وهو كل ما كان استسره الإنسان من خير أو شر، وأضمره من إيمان أو كفر، كما قال الأحوص: الثانية: روي عن النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أنه قال: «ائتمن الله تعالى خلقه على أربع: على الصلاة، والصوم، والزكاة، والغسل، وهي السرائر التي يختبرها الله عز وجل يوم القيامة». ذكره المهدوي.وقال ابن عمر قال النبي صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «ثلاث من حافظ عليها فهو ولي الله حقا، ومن اختانهن فهو عدو الله حقا: الصلاة، والصوم، والغسل من الجنابة» ذكره الثعلبي. وذكر الماوردي عن زيد ابن أسلم: قال رسول الله صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «الأمانة ثلاث: الصلاة والصوم، والجنابة. استأمن الله عز وجل ابن أدم على الصلاة، فإن شاء قال صليت ولم يصل. استأمن الله عز وجل ابن آدم على الصوم، فإن شاء قال صمت ولم يصم. استأمن الله عز وجل ابن آدم على الجنابة، فإن شاء قال اغتسلت ولم يغتسل، اقرءوا إن شئتم {يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ}»، وذكره الثعلبي عن عطاء.وقال مالك في رواية أشهب عنه، وسألته عن قوله تعالى: {يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ} أبلغك أن الوضوء من السرائر؟ قال: قد بلغني ذلك فيما يقول الناس، فأما حديث أحدث به فلا. والصلاة من السرائر، والصيام من السرائر، إن شاء قال صليت ولم يصل. ومن السرائر ما في القلوب، يجزي الله به العباد. قال ابن العربي: قال ابن مسعود يغفر للشهيد إلا الأمانة، والوضوء من الأمانة، والصلاة والزكاة من الأمانة، والوديعة من الأمانة، وأشد ذلك الوديعة، تمثل له على هيئتها يوم أخذها، فيرمى بها في قعر جهنم، فيقال له: أخرجها، فيتبعها فيجعلها في عنقه، فإذا رجا أن يخرج بها زلت منه، فيتبعها، فهو كذلك دهر الداهرين.وقال أبي بن كعب: من الأمانة أن ائتمنت المرأة على فرجها. قال أشهب: قال لي سفيان: في الحيضة والحمل، إن قالت لم أحض وأنا حامل صدقت، ما لم تأت بما يعرف فيه أنها كاذبة.وفي الحديث: «غسل الجنابة من الأمانة».وقال ابن عمر: يبدي الله يوم القيامة كل سر خفي، فيكون زينا في الوجوه، وشينا في الوجوه. والله عالم بكل شي، ولكن يظهر علامات الملائكة والمؤمنين.
|